قراءة في قصة " السور " للراحل : خيري شلبي – محمد صالح رجب
هناك من النصوص ما تجبرك على قراءتها مرات ومرات طمعا في مزيد من المتعة ، إذا صادفت نصا كهذا وأحسست بالرضا والإشباع بعد قراءته ، وودت أن تقرأه مرات ومرات ، فتأكد انك أمام نص مميز لكاتب مميز .. هذا ما حدث لي وأنا اقرأ نص " السور " من مجموعة عدل المسامير للراحل العظيم خيري شلبي .
القصة حملت عنوان " السٌّور " وهي كلمة " معرفة " ليست نكرة فلا مجال إذن للتأويل ، السور إذن كما في النص هو حد فاصل لواقعين مختلفين أو لعالمين مختلفين داخل نسيج المجتمع ، واقع يمثل الطبقة الفقيرة المحرومة والمقيدة داخل هذا السور ، والتي لا يُسمح لها بالخروج من هذا الإطار المحدد لها بالسور ، وإلا اعتبرت كسجين هارب وجب عقابه ، وواقع آخر يتمثل في طبقة السطوة والقوة والغنى ، وهي المحصنة تحصينا منيعا والذي لا يجب الاقتراب منها ، ومن يفعل ذلك فقد ارتكب خطأ فادحا وجب عقابه بما يتناسب وجسامة الفعل .
في السور أيضا هناك حقيقة مفادها أن القناعة كنز لا يفنى لكن مادمت لم تر فارقا كبيرا لم انت عليه والآخرين ، فعليك أن تقنع بما داخل السور ، عليك أن تقنع بمدرستك وفنائها وحقيبتك وحذائك المبرطش ، ومريلتك المترهلة الممزقة ، ورائحتك الزنخة وشعرك المنكوش حتى مُدرسيك ومُدرساتك بوجوههم المتهجمة المكشرة وصوتهم الخشن وأسلوب تعاملهم معك ، عليك أن تقنع بمعتقداتك بما فيه المعتقد الذي يفيد بأن زمن التفاوت بين الطبقات قد ولى على غير رجعة بانتهاء زمن البشوات ، ولن ينظر إليك احد بعد ألان نظرة دونيه ، وعليك أن تظل مقيدا معزولا مبعدا عن رؤية غير ذلك حتى تظل قانعا ، سعيدا بما انت عليه ..
إن صادفتك الظروف ورأيت الطبقة الأخرى كصاحبنا وقد " شاط " الكرة بقوة فطارت إلى حوش المبنى المجاور ، فانهارت معتقداته وأصبحت القناعة ليست كنزكما كان يعتقد ، لقد اكتشف ـ على غير ما كان يعتقد ـ أنها مدرسة كمدرسته وبها تلاميذ كما في مدرسته.. لكن التلاميذ غير التلاميذ والمدرسة غير المدرسة والحوش غير الحوش انه أشبه بالجنة أحواض وزهور وطرق واسعة منسقة وفي الوسط نافورة على شكل تمثال لامرأة جميلة تبخ الماء من فمها وأصابعها ورأسها، الأشجار تبدو كأن الحلاق نسق لها شعرها ، التلاميذ غير التلاميذ إنهم يشبهون الزهور كلهم بيض وحمر ، شكلهم جميل ، شعورهم مسبسبة لامعة ، ثيابهم جديدة ملونة بألوان زاهية مفرحة ، لا يصيحون ولا يتعاركون ، يقفون في مجموعات يتكلمون ويضحكون ، كلهم حلوين ويرطنون بكلام غير الذي نتكلم ..
فعلا القناعة كنز لا يفنى طالما لم تر مثل هذه الفوارق التي جعلت من هذا التلميذ يتمرد على حاله ويثور على وضعه القائم ويتساءل بعد أن رأى هذه المناظر : " هل يعقل أن الله الذي خلق عيال مدرستنا هو الذي خلقهم أيضا ؟! " بل انه القي باللوم على أبيه الذي لم يأت به إلى هذه المدرسة .. وبما انه على يقين من حب أبيه ، فلا بد أن السبب الذي جعل أبيه لا يأت به إلى هذه المدرسة هو انه لم يكن يعلم بها ، أما وقد علم هو بها فليتخذها مدرسة له ..
انه سوف يعامل كما رآهم يعاملوا .. ولن يعامل بعد الآن كفأر أو ثعبان ولن يَنظُر أحد إليه باشمئزاز ، ألسنا سواسية ؟ أليس الله الذي خلقهم هو نفسه الذي خلقنا ؟
إن الأمر على غير ما اعتقد ، لقد تجرأ على النط من فوق السور وتمرد على الخنوع والحرمان ، لقد تجرئ على إلغاء الحاجز وخرج من النطاق المحدد له والمحاط بسياج منيع ، وهذا أمر لا يصدقه عقل " حَقه كله إلا نط السور ! ده اللي كان ناقص " لقد أتى بكبيرة من الكبائر إنها " عمله سوده " إنها " قلة تربية " يجب أن يعاقب على قدر جسامة الفعل ، ويجب أن يعاد تربيتهم من جديد على الخنوع والحرمان وعدم إزالة أو التفكير في إزالة هذه الفوارق " العيال دي لازم تتربى من جديد" حقه كله إلا نط السور ! .
إن قصة " السور " هي رؤية الكاتب لمشكلة الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي ، بين أفراد المجتمع ، إنها طرق لضمائرنا ورسالة إلى كل من يهمه الأمر بأن غياب العدالة الاجتماعية مشكلة باتت تنخر في المجتمع حتى باتت جزءا من ثقافتنا ومعتقداتنا نُربي أبناءنا عليه ..
لقد وفق الكاتب في اختيار شخوصه ، بداية من الشخصية الرئيسية حيث اختار هذا السن الصغير حيث التعليم في الصغر كالنقش في الحجر ، وكأني بالكاتب يريد أن يقول أن هذه التفرقة وهذا الظلم لاجتماعي نُربي عليه منذ الصغر في هذا السن المبكرة وينشأ معنا حتى يصبح معتقدا الخروج عليه قلة أدب وعملة سوده تستوجب العقاب ..
و إذا كان التضاد في اللغة يظهر المعني ويقويه ، فالتضاد في الصورة أكثر أثرا ، إنه يلهب القلوب أسى وحزنا لهذا التفاوت ، و هذه الفوارق الفظة التي رسم الكاتب أدق تفاصيلها ببراعة وتَمكن في لوحة واحدة من الجمع بين صورتين مختلفتين لواقعين متقابلين احدهما يمثل الفقر والخنوع والحرمان ، والآخر يمثل الغنى والسطوة، ورغم الإغراق في وصف الواقعين كما يراه الراوي إلا أن ذلك لم يشعرنا للحظة بالملل بل زاد من وضوح وتمام الصورة .
لقد برع الكاتب في التعبير عن فكرته بأسلوب سلس ولغة بسيطة تتناسب مفرداتها مع قضية تهم المجتمع بأثره والذي يغلب عليه ألأمية ، وتتناسب مع شخصية الراوي الذي لا يتجاوز عمره بضع سنوات والذي منحه الكاتب الفرصة للقيام بوظيفته الفنية وأعطاه حرية أكبر في التعبير عم يراه وما يختلج بداخله مستخدما ضمير المتكلم ، تارة يتحدث بصيغة المفرد ، وأخرى بصيغة الجمع في المواضيع التي تجمعه بأفراد المستوى نفسه .
إننا أمام نص مترابط ومتماسك استطاع الكاتب أن يسير به في تناغم تام بين عناصره المختلفة في مجرى محدد المعالم مرسوم بعناية باتجاه هدفه مستخدما " مبدأ السببية " فكل فعل له ما يبرره ، تسلق السور ليحضر الكرة التي نطت إلى هناك ، هو وليس غيره من تسلق السور ، لأنه هو من شاط الكرة ، جلس في الفصل مع التلاميذ لأنهم مثله ، فالله الذي خلقهم هو نفسه خالقه ، استغربت " الميس " لوجوده لأنه ليس كباقي التلاميذ ، ذهب لمدرس الألعاب لأنه مصدر العقاب في المدرسة ، عاد إلى أبيه ، لأنه مصدر التربية التي هي أصل الموضوع فهو لم يحسن تربيته ، عليه ـ إذن ـ أن يعيد تربيته من جديد.
لا يمكن لعين تقرأ هذا النص أن تمر دون أن تقف أمام قدرة الكاتب الإبداعية وهو يعرض الحدث ، وما ترتب عليه بشكل تنازلي وكأننا نعود إلى ضربة البداية أو إلى المربع صفر ، فبعد الحدث وهو " تسلق السور لإحضار الكرة التي هبطت إلى مبنى مجاور ، في إشارة إلى إذابة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية واختراق الممنوع ، جاء رد الفعل الأول من المستوى الأعلى وهو رد فعل المدرسة التي كان يظن أنها سوف تنصفه باعتبار أن الله الذي خلقهم هو نفسه الذي خلقه فهم سواسية كما اعتقد ، غير أنها لم تنصفه ، ذهب إلى المستوى التالي لعله ينصفه وهي المدرسة التي ينتمي إليها لكنها لم تفعل هي الأخرى ، لم يعد له إلا أهله ومن اقرب إليه من أبيه الذي رباه لكنه لم ينصفه هو الأخر ، بل أن ما أظهره من غضب ودهشة يرسخان الانطباع بتأصل هذا الفكر داخل المجتمع ، وتظهر مدى الجرم الذي يرتكبه من يخرج على هذا الفكر .
من ينصفه إذا؟ المجتمع كله يسلم بالوضع القائم ؟! إنها ثقافة سائدة ومنظومة قائمة يصعب تغيرها .
وتصل السفينة إلى محطة الوصول وفي لحظة التنوير يختتم الكاتب النص بعبارة غاية في الإثارة " وأبي ينظر لي في غيظ ودهشة قائلا : تستاهل أصل أنا ما عرفتش أربيك " وفي اعتقادي أن الخاتمة تعيدنا إلى المربع صفر و إلى ضربة البداية حيث التربية وهي الأساس ، لكن السؤال : من الذي يجب أن يربى وعلام يربى ؟ سؤال ينتزعه الكاتب من القارئ دون أن ينطق به ، كما يستنطقه بالإجابة : يجب أن يعاد تربية وتأهيل المجتمع على ثقافة المساواة ، وإذابة الفوارق بين أفراده ..
وأخيرا أقف أمام عنصر الزمن في القصة ، أحاول أن أقف على زمن الحدث تحديدا يتفلت من بين يدي
في مساحة زمنية مقدرة بسنة بدايتها عام مضى وانتهاء بزمن السرد ( الحاضر ) لكن المؤكد ، أن الكاتب ابتعد بزمن الحدث عن نقطة البداية بوقت ليس بالقصير ، فلن تستطيع "الشخصية الرئيسة " أن تتعود على الاستيقاظ وحدها مبكرا ، ولبس المريلة وحدها والمشي في الحواري والذهاب إلى المدرسة وحدها إلا بعد مرور وقت ليس بالقصير ، وفي اعتقادي أن الكاتب أراد أن يعط فرصة أكبر لنمو الشخصية من خلال منحها الوقت الكافي حتى تتمكن من أداء وظيفتها على أكمل وجه . فالزمن بين دخوله المدرسة وحتى وقوع الحدث لاشك أن هذا الزمن قد اكسب هذه الشخصية مشاهدات وخبرات ، إضافة للنمو العقلي والجسدي مما جعلها مؤهلة لأداء وظيفتها بكفاءة عالية .
وأنا اقرأ هذا النص كأني بالكاتب قد سبق زمانه وهو يتنبأ بثورة على الظلم الاجتماعي وكأنه كان يرى شباب التحرير وهم يثورون على الظلم الاجتماعي ويطالبون بالعدالة الاجتماعية ، إنها جودة الفكرة التي تمس مشاكل وأوجاع الناس وهي ما تميز نص عن نص ، فالنص يبق طويلا في الذاكرة بقدر ما ارتبط بأوجاع وألام الناس وبقدر ما يخدم الإنسان وتطوره .
هذا مما أفاض الله عليّ في قراءاتي لنص " السور " من مجموعة عدل المسامير للراحل الكاتب الكبير خيري شلبي ، قد تختلف معي في قراءة النص ، لكن المؤكد انك لن تختلف معي على تميز النص وكاتبه .. تحياتي
محمد صالح رجب
" قاص مصري "