الخميس، 13 أبريل 2023

" جسد ضيق".. بين جرأة الطرح ومواءمة الواقع - عالم الكتاب - محمد صالح رجب

https://scontent.fruh4-5.fna.fbcdn.net/v/t39.30808-6/340928262_205994805469009_6642907765627778011_n.jpg?_nc_cat=100&ccb=1-7&_nc_sid=730e14&_nc_ohc=N0yMApeLMAIAX9J00XA&_nc_ht=scontent.fruh4-5.fna&oh=00_AfB79v-fS-6bH5JmvmUy-3vRSu8_dZeYMaGj61wnJaqPiA&oe=643E0EE6


 

" جسد ضيق".. بين جرأة الطرح ومواءمة الواقع -محمد صالح رجب

شغلت الصراعات الدينية البشرية منذ القدم، وتسببت في خسائر فادحة، وراح ضحيتها أعداد هائلة من البشر إلى ان وجد  الانسان في التعددية الدينية أو ما يعرف بـ"حرية المعتقد" مخرجا لوقف تلك الصراعات لصالح التعايش والعمل المشترك لخير البشرية، الا ان واقع الأمر يشير إلى صعوبة تطبيق ذلك على أرض الواقع في بعض المجتمعات لا سيما في دول العالم الثالث، وفي الوقت الذي يتشارك فيه قيادات العالم أجمع عبر تشريعات صارمة الالتزام بحماية هذا الحق، تظل العلاقة هشة في بعض الأماكن ويظل العنف والاقصاء وسائل البعض لفرض عقائدهم على الآخرين متشبعين بأفكار دينية متشددة. التطرف الديني ليس حكرا على دين ولا مجتمع بعينه، التهاون في مجابهة هذا الفكر عاظم من كلفة المجابهة، حتى على مستوى "الكلمة" أحجم البعض عنها لحساسية الأمر المفرطة وخشية من الخسائر التي قد تطال صاحبها، غير ان الساحة لم تخلو ممن تسلحوا بالشجاعة وسلطوا الضوء على خطورة الأمر وأشعلوا قناديل في طريق النجاة ومن هؤلاء د/ هويدا صالح عبر روايتها " جسد ضيق" الصادرة العام 2016 عن دار الراية للنشر، والتي تناولت بجرأة العلاقة بين عنصري الأمة في مصر: المسلمين والأقباط.

تدخل الكاتبة الى الموضوع مباشرة عبر العنوان" جسد ضيق" والذي يفصح عن شيء من الكبت والألم يسببه ذلك الضيق، فالموصوف بالضيق "جسد" له حواس، يرى ويسمع ما يسعده وما يؤذيه، يتذوق طعم اللُحْمَةِ ومرارة الاقصاء، يلمس ألم الشعور بالغربة أو فرحة الاحتواء. والضيق نسبي وما يعد ضيقا لأحدهما لا يعد كذلك لآخر، بل أنه على مستوى الشخص نفسه ما كان يعد فضفاضا أو مناسبا في وقت ما قد يعد ضيقا في وقت آخر. والضيق يعني عدم الاحتواء والاستيعاب، الضيق مُكَبِّل وضاغط ويسبب أذى.  فهل بات الأقباط يشعرون بأي نوع من هذا الألم؟ هل باتوا يشعرون ان مصر لم تعد تحتويهم؟ مصر التي كانت قبطية قبل الفتح الإسلامي والتي احتوت الاقباط بعد الفتح، هل أصبح الاقباط يشعرون أن ما كان فضفاضا ومناسبا يوما صار الآن ضيقا؟

الكاتبة تستبق تسليط الضوء على ما تعتبره بعض الإشكاليات في تلك العلاقة بتقديم كلا الفريقين على أنهما بشر لا ملائكة، كل منهما فيه الصالح والطالح وهي بذلك تهيئ المتلقي الى ان ما تقدمه لبعض الأشياء التي قد تسبب الضيق لأي من الفريقين تجاه الآخر مرده الأشخاص وليست العقيدة الدينية، فتلك الأشياء تحدث بين أصحاب العقيدة الواحدة. وفي هذا الإطار قدمت الكاتبة نماذج مسلمة صالحة من أمثال "الشيخ صالح" الذي يُعلي الإنسانية دون النظر لدين، والذي استضاف المقدس "صبحي "وساعده في الحصول على أرض وبناء منزل، واصطحبه في مجالسه دون أن يسأله عن ديانته. وهناك "سلوى" حفيدة الشيخ "صالح"، وهناك مدرسة اللغة العربية في مرحلة الإعدادي، ومدرسة اللغة الفرنسية في مدرسة الثانوي. ومن الأقباط هناك " صبحي" الذي فضل الإقامة مع المسلمين وجعل من قريتهم قرية اقتصادية تدر عليهم ربحا، وهناك "يوحنا" الذي لا تعرف الناس اسمه فينادونه "الباش حكيم" والذي يعالج الناس دون تمييز، و"سارة" التي ينصحها الأنبا دائما ان تتعلم التمريض لتسعد "شعب الله الواحد" في إشارة الى ان البشر كلهم واحد لا فرق بينهم في الإنسانية.

وعلى النقيض قدمت الرواية نماذج غير صالحة من الطرفين فقدمت من المسلمين "محمود البكري"، تاجر السلاح والمخدرات الذي يختبئ خلف تجارة الحبوب، والذي كانت نظراته تلتهم "لوتس" القبطية، وكذا البعض ممن تحرشوا ببعض الاقباط في المدرسة والجامعة وفي القرية حتى أن سعادة "دميانة" بالزواج لم يكن مرده الزواج نفسه وانما لمغادرة مكانها بين المسلمين والذي سبب لها أذى كبير. وفي الاقباط كان هناك "لوتس" التي لا تعرف التسامح و "دميانة" التي تحقد على المسلمين.

ورغم أن الكاتبة تنتصر للأقباط بتسليط الضوء على بعض هواجسهم ومعاناتهم الا انها لم تغسل يدهم من مسؤولية عزل أنفسهم، ومسؤولية بعضهم في اثارة الآخر. ويحسب للكاتبة تناولها للأمر دون ان تستثير أيا من الجانبين، فرغم ان الأغلبية في مصر مسلمة جعلت الكاتبة البيت الذي يشير الى مصر مملوكا لمسيحي اسمه "يوحنا" ربما في إشارة الى ما يعتقده بعض الأقباط ويثير حفيظة المسلمين من ان مصر كانت لهم وان المسلمين ضيوف عليهم. هذا المنزل له مدخلان: أحدهما قبلي وخصص للأقباط والأخر بحري وخصص للمسلمين، هذا التخصيص وان كان في ظاهره عدلا الا انه يساهم في العزلة والاقصاء ولا يحقق التعايش، فالتعايش يتحقق بالاندماج لا الفصل. الرواية قدمت نماذج من هذا الاندماج مثل اندماج صبحي مع المسلمين حيث مارس كل منهما شعائره الدينية وتجارته وتعاونوا فيما بينهما فكانت المنفعة للجميع. أيضا "ماريا" التي اندمجت مع المسلمين حتى انها فضلت الإقامة بينهم على السفر لحبيبها بإيطاليا. وتبقى نماذج الاندماج والتعايش التي قدمها النص محدودة لكنها تبقى إشارة قوية الى إمكانية تحقيق هذا الاندماج وما يحققه من منافع للجميع لاسيما ان الجميع على اختلافهم ينتمون في النهاية الى مصدر واحد.

في النص حوار دار بين فردوس ووالدها يقول لها: "يا ابنتي كتب علينا ان نعيش طوال الوقت حياة ليست لنا وليست من اختيارنا..."، الرواية في جانب منها تتحدث عن القدرية،  فكل شيء مقدر، مسارات مقدرة تخطوها الشخصيات، يتحكم فيها مصدر واحد عبر حلم يأتي، فيجعل من "مادلين" تترك القاهرة وتتزوج "يوسف" ويجعل من الأب يَقْبَل أن تعيش ابنته واقعها الخاص مع الدُومَى رغم اعتراضه السابق، ويدفع المقدِس” صبحي" لترك بلده وتجارته في أسيوط ويرحل الى الشمال بحثاً عن قرية رآها في منامه، وهذا التحول ليصل لتلك القرية فبدلا من أن يذهب الى قرية بعد ديروط، قابله الفلاح القادم من سوق الاثنين فثرثر له عن قريته، ويدخل النور قلبه، ويغير مساره الى قرية الرجل "اسمو العروس". انه المصدر ذاته الذي يتحكم في مسارات كل تلك الشخصيات، بل كل البشر.

وبعيدا عن الخوض في تقنيات السرد، نشير فقط الى نقطتين، الأولى: المكان الروائي، حيث تخطت الكاتبة أماكن الأحداث وانتقلت تدريجيا من الداخل الى الخارج، من أماكن الأحداث الفعلية في مصر وصعيدها الذي عادة ما يشهد بعض الازمات بين الجانبين الى مظلة أوسع، مظلة الوطن التي تستوعب كل المصريين حين اشارت الى "جمعية الإخلاص" التي أسستها "فردوس" وجعلتها مظلة لخدمة كل المصريين من مسلمين وأقباط دون تمييز، ثم تجاوزت حدود الجغرافيا الى فضاء أرحب، حدوده "الإنسانية" التي تشكل مظلة تسمح بتعايش الجميع ـ على اختلافاتهم ـ تحت سقفها.

النقطة الثانية: حساسية وجدية الموضوع ربما حرمت المتلقي من بعض جماليات اللغة والتي تطلب من الكاتبة أن تولي اللفظ ما يستحق من الدقة خشية من سوء التأويل.

"جسد ضيق" نص جريء، كاشف لعلاقة مأزومة تتخطى المكان الى أصحاب المعتقدات المختلفة أينما وجدوا لكنه في الوقت ذاته يشير بين سطوره لطوق النجاة الذي يجعل الجسد الضيق يتسع ليستوعب الجميع.

*********

محمد صالح رجب

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق