السبت، 28 فبراير 2015

وحيدة قصة قصيرة للقاص محمد صالح رجب

أُصِيبتُ بخليط من  الدهشة  والصدمة وهي تقول لي"مش بيجيلك يوم تكون زهقان وملكش نِفس لحاجة ..  أهو أنا كده النهارده .. "
طب خذي العصير ..
مش عاوزة ..
طب مصروفِك ..
مش عاوزة حاجة يا بابا ..
انت زعلانه من حاجة ؟
أبدا .. بس مليش نِفس لحاجة ..
حملت الحقيبة على ظهرها  ، ودعتني ونزلت في هدوء إلى مدرستها ..
كان غريبا أن اسمع من ابنتي الوحيدة التي لم يتجاوز عمرها الثمان سنوات مثل هذا الكلام وهي تجلس إلي جواري في صبيحة هذا اليوم ونحن في طريقنا إلى المدرسة .. ما الذي دفع بتلك الصغيرة إلى هذه الحالة ، وأين هي وحالة الزهق والطفشان التي تصيبنا ونحن نركض في الدنيا تلاطمنا الأمواج تارة نحني لها ظهورنا وتارة تقسمها .. كنت  كمن  يجلس أمام سيدة مسنة  أخذت منها الدنيا ما أخذت ، وأخذت من الدنيا حكمة السنين ، رحت أتساءل : ما سبب هذه الحالة التي أصابت ابنتي دون سابق إنذار؟
ذهبت إلى عملي مهموما مغموما ، وأنا أفكر في تلك الزهرة الجميلة التي تنتظرني كل يوم على باب المنزل عائدا من عملي ، تستقبلني بضحكتها العالية المجلجلة ، تقفز على كتفي ، غير مهتمة لأوامر أمها بأن تنتظر ريثما التقط أنفاسي ،  تقبلني مبتهجة ، أهمس في أذنيها بكلمات فتتعالى ضحكاتها ، أغازلها فتغار أمها ، ثم ما تلبث أن تهرول إلى حقيبتها وتطلعني على تقارير الامتياز التي حصلت عليها ، وتكرر السؤال ذاته : مبسوط مني يا بابا ؟ وتجد الإجابة ذاتها : قوي يا حبيبتي مع قبلة حانية على رأسها ..
ما الذي يدفع بتلك الصغيرة إذن إلى هذه الحالة ؟!
شغلني حال ابنتي عن عملي ، القلق يتملكني ، والهواجس تطاردني ، أسئلة عديدة تحاصرني :  ما الجديد الذي جد لأسمع منها مثل هذه الكلمات ؟وأي دوافع تلك التي تدفع بها إلى هذه الحالة ؟ ترى ما حالها الآن في المدرسة ؟ وما تأثير تلك الحالة عليها ؟ والى أي مدى ستلازمها ؟  لم اعد احتمل الانتظار  ، هممت أن اذهب إلى المدرسة للاطمئنان عليها ، غير أني  تراجعت  في اللحظة الأخيرة ، آثرت الانتظار حتى موعد الخروج .. غير أن حالتي لفتت انتباه أحد زملاء العمل ..أخبرته بما كان من ابنتي فانفجر ضاحكا : انت قلبك رهيف حبتين .. لو كان عندك نصف دسته مثلي لن تشغل نفسك بمثل هذه الأمور ..بل ستبادر وتمتع عنها إما المصروف أو العصير ويمكن حتى الاثنين معا ،  لم يرق لي  تعليقه ، ورحت انتظر..  ويمر الوقت بطيئا وسهام نظراته تصيبني من حين لأخر وهو يرمقني بنظرات ساخرة ويكتم ضحكة تصلني من عينيه .. وقبل الموعد بوقت كاف كنت أمام المدرسة .. أتأمل السيارات التي تتوافد تباعا .. أنظر إلى الوجوه وكل شئ  فربما أجد تفسيرا شافيا هنا أو هناك  ..أدقق في الوجوه هل هي مثل وجهي  ، هل أصاب بناتهم مثل ما أصاب ابنتي ؟ هل يتعاملون مع بناتهم كما أتعامل مع ابنتي ؟ هل يسخرون كل أوقاتهم لإسعاد بناتهم كما افعل ؟!
دق جرس المدرسة معلنا انتهاء اليوم الدراسي، وأنا أقف على باب المدرسة ، قلقا ، متلهفا لرؤيتها ، وإذا بها تترك صديقتها عندما تراني ، وتسرع نحوي مبتسمة ،  ركبت السيارة وهي تقص على كعادتها ما حدث بالمدرسة وقبل أن  أتساءل عن  سبب حالتها في الصباح، تبادرني : أنا زعلانه منك قوي يا بابا .. ازاي ما تعطيش لي  مصروف ولا عصير اليوم ، وأصحابي كلهم معاهم ؟
أومأت براسي : معلش يا حبيبتي ..
عدت إلى عملي وضعت رأسي في أوراقي وأنا المح من حين لآخر نفس نظرات صديقي من خلف النظارة ..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق