الجمعة، 2 فبراير 2018

بائع الفل _ قصة من المحموعة القصصية " أشياء منسية " - محمد صالح رجب

سيارة فارهة مكيفة .. مذياع يصدح بأعذب الألحان .. وإلى جواره تجلس امرأة جميلة .. جو لم يكن يألفه من قبل.. اخترق شوارع المدينة التي ضاقت بالسيارات  .. أعمدة النور وأضواء المحلات تشكل كرنفالا متنافرا زاد من حدته  تلك الأبراج الشاهقة المتناثرة بين  المباني المتهالكة .. جال بعينيه .. نفس الوجوه الكادحة .. رجل المرور الذي يقف على مفترق طريق ويمد يده ليأخذ من سائق الميكروباص .. وتلك القمامة المكومة على الأرض هنا وهناك ..  لم يتغير الشئ الكثير طيلة سنوات سفره.. عبر الكوبري العلوي المفضي إلى قلب المدينة.. ضجيج  القطارات يتردد صداه بعنف تهتز له جدران المباني العتيقة التي أطفأ الزمن بهاؤها .. رجل مرور يتقدم إشارة حمراء  متقطعة وجرس إنذار يعلن عن اقتراب القطار من مزلقان السكة الحديد ،  طابور من السيارات يقف أمام المزلقان ، توقف هو الآخر في ذات المكان .. لوحة السيارة الصفراء التي كتب عليها " جمارك " تكشف أمره .. لم يأبه كثيرا لتلك العيون الجائعة التي تلاحقه فهو يعرفها جيدا .. راح يتأمل تفاصيل المكان .. مشهد غاية في التناقض .. أبراج شاهقة ومبان عتيقة ، سيارات حديثة وأخرى قديمة ، دراجات وأناس يعبرون بلا اكتراث .. تسمرت عيناه عند ذلك  الصبي الذي يرتدي ملابس بالية  و يتنقل بين السيارات في خفة ورشاقة .. لقد نكأ عليه جرحه  وذكره بأيام خوال مضت  .. قفزت إلى ذهنه تلك الصورة القديمة  .. صورة الصبي الذي  يقف جانبا كبيرا من الليل ، يتنقل بين السيارات الفارهة و أماكن تلاق العشاق ، يُقطع الجوع أمعاءه ، وتهفو نفسه إلى أطايب المأكولات وعذب الكلام وجميل المنظر، لكنه لا يشعر حتى بعبق الفل الذي يحمله ،  يحفظ بضع كلمات عليه أن يرددها بابتسامة وانكسار ، متحملا بذاءات البعض ، ومكتسبا عطف آخرين  ، وتجاهل  الكثيرين .. يبيع ما قدر الله له أن يبيعه .. ثم يعود ببضع جنيهات لا تسد رمقه ، ولا تكفي لشراء علبة دواء لأمه طريحة الفراش أسيرة المرض  .. خرجت تنهيده عميقة ملتاعة من أعماقه .. تساءل في نفسه : ترى أي عظيم دفع به إلى الشارع ؟!
راح يرقبه وهو يسابق الزمن ويتجه نحوه .. تخطى الصبي عدة سيارات حتى وصل إليه ، وباستعطاف  وانكسار مد يده بعقد الفل : فل يا بيه ..
أسعدته كلمة "يا بيه " من الصبي رغم أنه سمعها مرات ومرات منذ  وطأت قدماه ارض الوطن ، راح يتأمل قسمات وجهه التي اغتال الشقاء براءتها ،. انتبه إلى القطار وهو يمر ، سريعا أخذ العقد وناوله زوجته ثم مد يده في مائة جنيه وأعطاها إياه ..  
-          الباقي يا بيه ..
-          خليه عشانك .. ثم انطلق ..
نظر في مرآة السيارة ليتابع الصبي ، لم ير إلا وجهه ..
ابتسم وهو يشعر بفرحة الصبي فقد فعلها أحدهم معه من قبل ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق