الكاتبة تركية لوصيف اشتهرت بأدب الأسطورة، ربما وجدت فيه طريقا لتمرير رسائل، ما كانت لتمر الا عبر ذلك النوع من الادب، فكتبت على ألسنة الحيوانات كما في "اسطورة سنجابي". أما في "منتزه فرجينا" حملت مشروعا للتعايش السلمي بين أصحاب المعتقدات المختلفة وهو في ظني وبناء على ما نلمسه على أرض الواقع يعد هو الآخر ضربا من الخيال لاسيما في الاجل المنظور. وفي هذا النص الذي بين أيدينا تعود بنا الكاتبة الى عمق الواقع لتخرج لنا ما في باطنه وتنير لنا جوانب ظلت معتمة لسنوات تحت ستر ظلام ربما.. عن قصد.
-
نص " يوم تكلمت مع
الباشا"، يحكي قصة رجل سُدت في وجهه منافذ العمل الشريف فاضطر لبيع الشموع في
زقاق مظلم يُمارس فيه كل أنواع الرذيلة، الأمر الذي تطلب أن يظل فَمُهٌ مطبقا، لا يثرثر
ويبوح بما يرى أو يسمع ولا يفتح فَمُهٌ في أي مكان الا لتناول الطعام خشية على
لقمة عيشه، لكن حين هُدد في لقمة عيشه قرر أن يثرثر وأن يتكلم مع الباشا الذي
يتحكم في الزقاق سعيا للحفاظ على لقمة عيشه.
-
ان ما يميز القص الجيد ليست الحكاية
في ذاتها وانما طريقة حكايتها أو التكنيك المستخدم في الحكي، لأن ذلك يؤثر على
كيفية التلقي، ومدى الأثر الذي تحدثه القصة في المتلقي. الحكاية واحدة لكن طريقة
توصيلها الى المتلقي تختلف من راو الى اخر ويختلف معها درجة التأثير في المتلقي.
-
أيضا ما يعنينا في القصة هو ما وراء
النص، ما يعنينا هو ما يقرأ بين السطور، هو تلك الرسائل التي يشار اليها ضمنا دون
ان تكتب صراحة، هو ذلك النقص الذي يتركه الكاتب عن عمد ليس فقط لمزيد من الايهام
بالواقعية حيث لا شيء كامل، وانما ايضا لتحفيز القارئ لملء تلك الفراغات، مما يسمح
بتعدد القراءات والتأويلات بتعدد خيال وثقافات القراء.
-
عنوان النص كان لافتا ويطرح العديد
من الأسئلة من قبيل:
من هو هذا الباشا؟
ولماذا كان هذا اللقاء؟
وماذا دار فيه؟
وما نتيجته؟
وفي أي مكان كان؟
أسئلة عديدة يطرحها العنوان تدفع المتلقي للتقدم في قراءة
النص.
-
ان عالم الظل او الظلام له قوانينه
التي تحكمه وله حٌمَاتُه، ويَتَورطُ فيه مسؤولين، كذلك المسؤول الذي ظهر في الزقاق
المظلم الذي يعيش كل أنواع الرذيلة.
-
مؤكد أن تجارة الشموع لم تكن هي
المقصد بحد ذاتها وانما المقصد كل المهن المُحَدَّدَة التي تُطلب من الفقراء خدمة لرواد
هذا العالم والتي لا يُسمَح لهم بتعديلها او التوسع فيها. وهنا يحسب للكاتبة استدعاء
تلك التجارة بعينها واقصد "تجارة الشموع" كنموذج لتلك المهن، لأنها من
ناحية لن تكون كافية الإضاءة لتكشف أغوار هذا العالم الذي يعيش كل أنواع الرذيلة،
خفوت الشموع يتناسب مع قدرة البسطاء المحدودة على كشف هذا العالم، البسطاء لن يروا
الا القليل بقدر من توفره هذه الشموع البسيطة من اضاءة، وقدرتهم على فضح ما يدور
هناك محدودة بقدر الإضاءة التي توفرها تلك الشمعات، ولعل هذا سبب إصرار الشمطاء
على اختيار الشموع ورفض أي أصناف أخرى، الأمر الذي جعل بطل القصة يصف الشمطاء بالفطنة
قائلا: " اردت
تنويعا في مبيعاتي ولكن الشمطاء بدت لي أكثر فطنة وطلبت الشموع".
-
الزوجة الثرثارة اللحوحة، وكذا
الشباب الذين تهكموا على الرجل، ما هم الا نماذج لما تعرض له الرجل من ضغوط
واستفزازات لدفعه لفتح فَمِهِ والثرثرة، ويستوقفني هنا صمود الرجل، ورَدِّهِ
العبقري على محاولات زوجته المستمرة لاستنطاقه وهذا الربط بين فتح الفم والطعام
حين قال: " أبقيت فمي مطبقا حتى أفتحه متى حضر الطعام".. وهو تأكيد
لقناعاته بأن الفم يفتح فقط لتناول الطعام، إن فُتِح لغير ذلك فلن يجد هذا الطعام،
لقد كانت له تجربة سابقة من قبل ولم تُجْدِ الثرثرة نفعا.
-
المكان:
-
وصف المكان بالمظلم يحيلنا الى تلك
الأعمال المنافية والخارجة على القانون والتي عادة ما تتم في الخفاء بعيدا عن
النور.
-
ايضا
الكاتبة لم تحدد لنا بلدا بعينه، ليتخطى المكان بذلك الحدود الضيقة الى عالم أوسع
ليشمل كل تلك الأوكار التي يمارس فيها الرذيلة والأعمال المنافية للقانون أينما
كانت، فكل تلك الأوكار وحيثما وجدت ما هي الا أزقة مظلمة.
-
الاحداث سارت في خط زمني منتظم في
اتجاه واحد الى الامام، معتمدا السببية، فما كان الرجل ليذهب الى هذا المكان الذي
يعج بكل أنواع الرذيلة الا لأن منافذ العمل الشريف سُدت في وجه، وما كان ليطبق فمه
الا حفاظا على لقمت العيش، وما اضطر للثرثرة وفتح فمه لاحقا الا حين هدد في لقمة
عيشه.
-
الراوي:
-
استخدمت الكاتبة تقنية الراوي
المشارك صاحب الصوت في القصة، استخدمت تقنية الراوي بضمير المتكلم، فالراوي هو
البطل، هو جزء من الاحداث، يرويها بلسانه ومن زاويته ورؤيته ووجهة نظره الخاصة، ويظل
الأمر مقبولا ومقنعا حتى يتورط في تناول الاحداث من وجهة نظر الشخصيات الأخرى
وتفسير أفعالها. في نص " يوم تكلمت مع الباشا" لم نر هذا التورط، وكان
تناول السارد للشخصيات الأخرى لا يزيد عن الاخبار مثل: تأتيني على عجل، تأخذ،
تدفع، حذرني، طردتني. وهكذا. مرة واحدة تدخل حين حكم على الشمطاء بالفطنة
لاختيارها الشموع كما أسلفنا، لكنه كان قد احتاط للأمر بقوله " بدت لي".
فبدا الامر وجهة نظر له تحتمل الصواب والخطأ.
-
ذكرنا سابقا ان ما يهمنا هو ما وراء
النص او ما يقرأ من بين السطور ولم يُشَر اليه صراحة، وفي هذا الأمر هناك عدة نقاط
على النحو التالي:
-
دلالة استخدام مفردة "
الباشا" بما ترسخه من سلطة ونفوذ، وكذا تواجد المسؤول في هذا المكان المظلم
الموبوء بكل أنواع الرذيلة تحيلنا الى تورط شخصيات نافذة في الفساد.
-
أهمية المعلومة لدى المسؤول، لاسيما
تلك التي تتعلق بتأمين مصالحه، والتي تدفعه للقاء رجل بسيط صرح ان بحوزته بعض
المعلومات.
-
أيضا يُقرأ من بين السطور ما هو معلوم للعامة من
أن التواجد ضمن هذه الحاشية لا يضمن لك لقمة عيش تسد رمقك فقط وانما يضمن لك
الثراء فترتدي البدل وتمتلك الهواتف ويخصص لك سيارة تقلك الى منزلك.
-
يقرأ من بين السطور أيضا تقصير
السلطات في توفير فرص العمل بل والتجاوز أحيانا والتضيق مما قد يدفع البعض
للانحراف، وهنا اقتبس " وما نفعي بالثرثرة وقد عَرَضتُ بضاعتي على الرصيف
وداستها أرجل الشرطة "
-
عنوان القصة الحقيقة طمعنا، ورفع
سقف التوقعات، ظننت ان الحوار مع الباشا سيحدث شيئا كبيرا يغير المسار غير ان
نتيجة اللقاء والكلام مع الباشا كان أقل مما توقعنا، حيث سار بالرجل في نفس
الاتجاه، لم يكن هناك تحول بالمعنى الحقيقي، فلم يتغير مثلا مسار البطل ويعود عن العمل
في الزقاق المظلم، ولم ينتفض في وجه الباشا مثلا او أي مسار مبتكر آخر، لكنه ظل في
مساره المنحرف، في البدء كان يأخذ أموالا سخية كما جاء في النص:" الشمطاء تأخذ
ما جلبت وتدفع لي بسخاء"، الجديد بعد مقابلة الباشا وتقديم فروض الطاعة
والولاء هو بعض المنافع الإضافية.
-
بعض الأخطاء الاملائية واستخدام
علامات الترقيم في غير موضوعها كما الهمزة في "سأبقى فمي مطبقا وأردت تنويعا في
مبيعاتي "، وكذا علامات الترقيم في: شاهدني، وحذرني، من الثرثرة وأطبقت فمي
.. وقد يكون ذلك لأن النص الذي بين أيدينا غير مطبوع ورقيا.
-
من السمات التي اظهرها النص للشخصية
الرئيسية انها غير مقاومة، منذ البداية سقطت امام اول اختبار حين دهست الشرطة بضاعتها
ولم تحاول من جديد انما لجأت الى العمل في الزقاق المظلم، وحين جاءتها الفرصة
للتخلي عن العمل في الزقاق والبحث عن عمل في مكان شريف أصرت على مواصلة الطريق
الاسهل لها وذهبت تعرض ولاءها للباشا للاستمرار في العمل في الزقاق.
-
النص اجمالا استمرار لنهج "
تركية لوصيف " المميز بقدرتها على اشراك المتلقي وتحفيزه على استنباط ما بين
السطور من رسائل.
محمد صالح رجب
كاتب مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق